تجتاح الإنسان أمراض متنوّعة، غالبيتها يوجد لها علاجٌ والبعض الآخر، ذات الطابع المزمن، قد لا يوجد. طبعًا الرحمة الإلهيّة قادرة أن تشفي كلّ مرض وضعف في الشعب. أمّا مرض البخل، الذي يفوق كافة أنواع الأمراض، فبحاجة إلى علاج فوق العادة. علمًا أنّ ما من بخيل اعترف بمرضه يومًا، فالبخيل يعتبر البخل شطارة وإدارة.
فيما أتناول هذا الموضوع، يحضر أمامي مَثل الغني الجاهل، الذي كان همّه إشباع نفسه، فجاءه جواب الرب: "يا جاهل في هذه الليلة تُطلَب نفسُك منك. فهذه التي أعددتها لمن تكون، فهكذا من يدّخر لنفسه ولا يستغني بالله، ولما قال هذا نادى من له أذنان للسمع فليسمع"(لوقا ١٢: ١٩-٢١).
نبّه يسوع المسيح من عبادة المال، الذي هو أصل كلّ شرّ. حبّ الفضّة ساق يهوذا الغاش لتسليم المخلّص. حبّ المال عبادة للأوثان وثمر لعدم الإيمان. مَن يعبد المال لا يعيش الإنجيل، حتى لو حفظه ودرسه من الدفّة إلى الدفّة. مَن يدّعي محبّة الله والمال معًا يخدع نفسه، لأنّ البخيل لا يمكن أن يفرّق من أمواله، بينما الذي يحبّ الرب بصدق، يستطيع ذلك. ما من دين نادى بالبخل.
البخيل لا يعرف محبّة الآخر، والمحبّة بالمطلق، بل يفتّش عن مصالحه الضيّقة ليستربح الآخرين. هذا النوع من الناس لا يكتسبون الفضائل، ولا سيما فضيلة العطاء، وبالتالي يكسرون وصية السيد المسيح القائلة: "من سألك فاعطه ومن اراد ان يقترض منك فلا تردّه"( متى 5: 42).
وقد ورد في الكتاب العزيز: "من يعرف أن يعمل حسنًا ولا يفعل فتلك خطيئة له"( يعقوب 4: 17). لا شك أن البخيل الذي عنده المال يعرف أنّ بإمكانه استخدامه في أعمال حسنة كثيرة، لكنّه يتغاضى عن ذلك. لهذا يقول القديس مكسيموس المعترف: "ليس البخل في أن تملك المال بل في استعماله السيّء". فهو وسيلة وليس غاية، فالمال يسهّل وسائل الراحة، ولكن ليس بالضرورة أن يهب الإنسان الراحة.
آباء الكنيسة يميّزون ثلاث صفات لخطيئة البخل: "أولا تعلّق القلب بالمال، وهذا هو البخل بالمعنى الصحيح، ثانيًا: الرّغبة في كسبه دومًا وبدون توقف وهذا يعني الطمع، ثالثًا: التشدّد في التملّك". لذا ما من بخيل إلا ودمّر أسرته، وغالباً ما يكون بخيلًا على نفسه. يعيش كفقير على الرغم مما يملكه، يخاف أن ينفق المال حتى على نفسه لأنّه يحب المال أكثر من حبه لنفسه وعائلته، فقلب هؤلاء حيث يكنزون أموالهم، لذلك قد لا يكون لهم حظوة في ملكوت الله.
في هذا الإطار، يوبّخ القدّيس باسيليوس الكبير الاغنياء البخلاء، الذين يمتنعون عن حضور اللقاءات، مخافة أن يُجبروا على التبرّع للفقراء، إذ يقول لهم: ”تعرفون كلمة واحدة، لا أملك شيئًا لا أعطي شيئًا. أنا فقير. نعم أنت فقير لأنك لا تملك شيئًا صالحًا، أنت فقير للحب، فقير للصلاح، فقير للأيمان بالله فقير للأمل بالآخرة"...
ونحن في هذا الوطن، أتتنا الأزمة لتغربل بين المحبّ والمعطاء من جهة، الذي على الرغم من تعرّض أمواله للنهب والسرقة الموصوفة، بقي محبًّا للعطاء. في حين أنّ البخلاء أتتهم هذه الأزمة "شحمة على فطيرة"، حتى يقبضون على يدهم أكثر فأكثر. ما يؤلم أنهم يثنون على سعينا لجمع التبرعات، ولا يبادرون إلى مدّ اليد لجيوبهم، لأنّ قلوبهم مغموسة في عبادة المال، فأموال هؤلاء لم ولن تنفعهم "دنيا وآخرة".
البخل قد يتخطّى الأفراد إلى مؤسسات، سواء دينيّة أو غير دينيّة. فبعضها يستفيد من "الزبائن"، أو أولياء الطلبة، أو المرضى، ويتباخلون بالعطاء للموظّفين والأساتذة والممرضين. هذا نموذج مما نسمعه في بلدنا. كلّ واحد منّا مدعوّ للعطاء، خصوصًا العطاء المغبوط، الذي يحبّه الله. نحن نعيش أزمة صعبة لم نعرفها منذ عقود. ما يؤلمنا نحن الكهنة، أن تطلب مساعدة لمحتاج، ويأتيك غنيٌّ أو مسؤول بنظريات، دون المبادرة إلى المساعدة. في حين قد نتفاجأ بعطاءات من أناسٍ "على قد الحال". فيسوع عظّم فلس الأرملة، قائلًا فيها: "لأَنَّ الْجَمِيعَ مِنْ فَضْلَتِهِمْ أَلْقَوْا. وَأَمَّا هذِهِ فَمِنْ إِعْوَازِهَا أَلْقَتْ كُلَّ مَا عِنْدَهَا، كُلَّ مَعِيشَتِهَا"(مرقس ١٢: ٤٤). بفضل هؤلاء ستبقى بركة الرب باسطة يدها علينا، فإن أكرمنا الفقراء اكرمنا الله. وقد ورد عند القدّيس يوحنا الرحيم أن الفقراء سادتنا "لأنهم وحدهم القادرون على مساعدتنا، وهم الذين يمنحوننا ملكوت السموات".